الكتاب المسيحي

الشركة في الثالوث الأقدس – أوليفيه كليمانت

1698234295

 

+ إن قُوى الإنسان العُليا مؤهَّلة لأن تستقبل النور الإلهي وتعكسه على من حولها. القدرات البشرية مَدْعوَّة لأن تُستَثْمر في «المواهب الإلهية». أما هذه الممارسات في تُعتبر بحد ذاتها شركةً مع الثالوث الأقدس الفاعل في كل عمل صالح، وصورةً معبرة عن حضوره الإلهي. بَيْدَ أن الأمر الأساسي الذي تعمله قوة انطباع صورة الله فينا هو أنها تبثُّ في كياننا «الإحساس بالخلود». إنها تخلق في الإنسان قوة الامتداد نحو ما يفوقه، وتستنهض فيه «الحنين للأبدية». وبهذا يصبح الإنسان أعظم من العالم الذي وُلد فيه، هذا العالم الذي يريد أن يستحوذ عليه. وبقوة انطباع صورة الله فينا يؤكد الإنسان أيضاً حريته الجوهرية. وكون الإنسان على صورة الله هذا يعني الأساس أن له وجوداً شخصياً حراً قائماً بذاته.

[إذا كان الإنسان قد دُعي للحياة ليكون شريكاً في «الطبيعة الإلهية»، فلابد أن يكون تكوينه أساساً مما يؤهِّله لهذه المشاركة… كان من الضروري أن شيئاً من المماثلة الإلهية يُمزج بالطبيعة البشرية حتى تجعله هذه العلاقة يميل إلى ما تمتُّ إليه… من أجل هذا وُهب الإنسان الحياة والبصيرة والحكمة وكل السجايا الجديرة باللاهوت (أي بالطبيعة الإلهية)، حتى يتوق كلٌّ من هذه الفضائل إلى مثيله في الله. ولأن الأبدية ملازمة للاهوتية على الإطلاق، كان لا مندوحة من أن لا تُحرم منها طبيعتنا، بل أن تُزوَّد بعنصر الخلود. وبفضل هذه الهبة الممنوحة، نجدها مشدودة دائماً إلى بفوق قامتها، يحدوها دائماً الحنين إلى الأبدية.
هذا ما توميء إليه رواية خلقة الإنسان في عبارة واحدة جامعة شاملة، عندما تقول إن ’’الإنسان خُلق على صورة الله‘‘. (تك 26:1).](1) القديس غريغوريوس النيصي

[الإنسان حرٌّ منذ البداية، لأن الحرية هي من صميم طبيعة الله، ولأن الإنسان خُلق على مثال الله.](2) القديس إيرينيئوس

+ النعمة تُخلِّص، ولكن بتلاقي المحبة، أي باستجابة الإنسان لمحبة الله. إنها تحيط بالإنسان، كل إنسان، كالهواء الجوي، متأهبة دائماً أن تدخل إليه من خلال أصغر منفذ في الإرادة. بَيْدَ أن الحرية الملوكية التي للإيمان هي وحدها التي تُحسن استخدام هذا المنفذ، فيصبح مدخلاً فعالاً واستسلاماً طوعياً مُبدعاً للحياة الإلهية. إنه من أجل خلاص البشرية جمعاء قد أُفرز البعض، فليس الفرد المؤمن في انعزاله، ولكن في اتحاده مع الآخرين في ذات الإيمان الواحد، بل كل البشر معاً هو الذين يُكوِّنون حقيقة قوام صورة الله. فما نراه هو أن هذا الـ «آدم الشمولي»، وهذا «الإنسان الفرد» قد تفتت، ونحن (أفراداً وجماعات) لا نكف عن تحطيمه، أما المسيح «آدم الأخير» فهو يعيد تجديد بناء قوام الإنسان، سواء في فرديته أو تعدديته، ليكون على صورة الثالوث الأقدس الواحد في الجوهر الإلهي.

+ إن قول الله «نعمل الإنسان على صورتنا»، يعني البشرية في وحدتها الكيانية العامة.

[إنها كل الطبيعة البشرية في شمولها ممتدَّة من البداية إلى النهاية، هي التي تكوِّن قوام الصورة التي على مثال الكائن الأعظم.](3)

[القول بأنه يوجد ’’بشر عديدون‘‘ هو تعبير جرت به عادة الأسلوب العامي… نعم يوجد هناك كثرة تشارك في نفس الطبيعة البشرية الواحدة… ولكن خلالها جميعاً الإنسان هو واحد.](4) القديس غريغوريوس النيصي


+ من جهة أخرى، الإنسان ككل –نفساً وجسداً- هو الذي جُبلَ على صورة الله. فالجسد قد أُعطيَّ أن يكون هو التعبير عن الوجود الشخصي الفردي لنفس الإنسان عندما تقبَّل هو أيضاً النفخة المُحّيية. ومع الكتاب المقدس يؤكد الآباء أن الكيان البشري لا يقوم إلا وحدة النفس مع الجسد. المرئي من الإنسان لم يكن ليوجد إلا ليعبر عن اللامرئي فيه. لذلك كان القديسون يشعوُّن ببهاء ينبعث من قلب يتميز بالصيرة الثاقبة والمحبة الشديدة. الجسد هو أيضاً مدعوٌّ للقيامة والحياة الأبدية. والآباء الرسوليون في القرن الثاني شددوا كثيراً في تعاليمهم على رفعة منزلة الجسد هذه. فالمسيحية لديهم تبشر بقيامة الجسد، لذا فهي تسبق وتُعِدُّه منذ الآن لهذه الحقيقة، التي برهنتها وأكدتها قيامة المسيح و«صعوده» هذا الذي رفع الجسد الأرضي وعمَّقه في الله.

+ من أجل هذا كانت مسيحية القرون الأولى منشغلة أساساً لا بخلود النفس –الذي لا ريب فيه والمُسلَّم به أصلاً- بل بقيامة الأجساد والكون بأسره، والكون هو بمثابة جسد البشرية. فكل حياة الكنيسة على الأرض هي بمثابة «معمل تفريخ للقيامة» (كما يقول العالم اللاهوتي المعاصر ديمتري ستانيلوي). إنها الكنيسة تبث روح القيامة الفائقة في البشرية جمعاء وفي الكون كله.

[ليس في جزء من طبيعة الإنسان، توجد صورة الله، وإنما في الطبيعة برُمَّتها الصورة الإلهية.](5) القديس غريغوريوس النيصي

[أرواح بلا أجساد لا يمكن أبداً أن تكون بشراً روحيين. ولكن واقعنا بكامله، أعني به كياننا المُركَّب من روح وجسد، حينما يتقبل روح الله، فهو يصير إنساناً روحياً.](6) القديس إيرينيئوس

[هل النفس أياًّ كانت –هي وحدها- التي تحدد قوام الإنسان؟ كلا، فالنفس ما هي إلا جانب من الإنسان. وهل الجسد هو الذي يتميز به الإنسان؟ كلا، فهو ليس إلا جزءاً من الإنسان. إذاً، فمن حيث أن هذين العنصرين لا يمكن لأيٍّ منهما على حدةٍ بأي وجه من الوجوه أن يُكوِّن الإنسان، فمن ثم يلزم أن نقول إن الوحدة المكوَّنه من اتحاد الاثنين معاً هي الجديرة بأن تُسمى إنساساً. ويقيناً أن الإنسان ككل وليس جزءٌ منه هو الذي دعاه الله إلى الحياة وإلى القيامة (قيامة الجسد).
إن الإنسان بكُلِّيته هو الذي دُعي، أي بالنفس والجسد أيضاً. وإذا كان الاثنان يكوِّنان اتحاداً ممتنع الانفصال فكيف نعتقد أن أحدهما يخلص (ويفوز بالحياة الأبدية) دون الآخر؟ وإذا كنا قد قبلنا مرة إمكانية تعرُّف الجسد على مَوْلد (روحي) جديد، فكيف يُعقل أن تنعم النفس وحدها بالخلاص الأبدي دون الجسد؟](7)

[إذا كان صحيحاً أن الجسد هو بلا أدنى جدوى، فلماذا أبرأه المسيح؟ بل ولماذا بالأخص بلغ إلى حد أن أُقيم من بين الأموات؟ وماذا كان القصد من هذا؟ أليس ذلك لكي يبين لنا كيف أن القيامة (للجسد) لابدَّ أن تحدث؟ ومن الواضح أنها كانت لكليهما (الجسد والنفس) معاً. وإذا كانت القيامة ليست إلا روحية، كان ينبغي أن الرب يشير بقيامته هو إلى ذلك، فيكون الجسد مُضجعاً في جانب والنفس تبدو قائمة بدونه. ولكنه لم يفضل مثل هذا، بل إنه قام بجسده المصلوب، إذا كان لا يبرهن بذلك على حقيقة قيامة الجسد؟ وإذا أراد أن يقنع تلاميذه الذين رفضوا أن يقبوا أنه قام حقاً بجسده… سمح لهم أن يلمسوه ويتحققوا هم أنه هو، وأنه ما زال في جسده. ثم بعد ذلك، في مرَّة أخرى، طلب منهم أن يأكل معهم… فأكل عسلاً وسمكاً. وهكذا وضع اليقين أمامهم أن القيامة ستتم لجسد بشريتنا هذا الذي نحيا به على الأرض. ثم إذ أراد أيضاً أن يؤكد لنا أن موطننا الدائم سيكون في السماء، أنه ليس مستحيلاً على الجسد أن ينطلق إلى هناك؛ سمح لتلاميذه «أن يروه مرتفعاً إلى السماء» (مر 19:16)](8) الفيلسوف الشهيد يوستين


+ يشترك آباء الكنيسة الروحيون الأوائل جميعاً (انطلاقاً من الكتاب المقدس) في رؤيتهم أن القلب هو المركز الأساسي في حياة الإنسان المسيحي. هذا ’’القلب‘‘ وإن كان يأخذ نفس التسمية التي يحملها هذا العضو الطبيعي من الجسد ولكن دون أن يتشابه معه بكُلِّته، فهو موضع معرفة المحبة حيث يستجمع الإنسان كل قواه وأفكاره وأحاسيسه، وفي الوقت نفسه ينفتح على الآخرين (إن كان هذا الآخر هو الله أو الإنسان). هذا «القلب الروحاني» هو منفتح دائماً على الروح القديس وهو يستقبل منه النور الإلهي ليبَّه في الجسد… لكي يُمكِّنه من أن يصير روحانياً، بينما بالمقابل نجد أن أعلى مستوى من الذكاء إذا ما انغلق أمام السر الإلهي يصير جسدانياً.

[النعمة تنقش في قلب أبناء النور شرائع الروح. لذلك، لا ينبغي أن يستقوا إيمانهم فقط من الكتب المقدسة المدونة بمِداد، لأن نعمة الله تكتب أيضاً سُنَنَ الروح والأسرار السماوية على لوحي القلب. فالقلب في الواقع يقود ويسوس الجسد كلَّه. وحالما تستحوذ النعمة على مراعي القلب، حينئذ تملك على كل الأعضاء والافكار. لأن فيه تقوم الروح وكل خواطر النفس وآمالها. ومن خلاله تسري النعمة في كل أعضاء الجسد.](9) القديس مقاريوس الكبير


ترجمة وإعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار
مقالات مُترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des Origines (منابع الروحانية المسيحية في أصولها الأولى). للفيلسوف الفرنسي المعاصر والعالم الآبائي أوليفيه كليمانت Olivier Clément
الناشر: دار مجلة مرقس
الطبعة الأولى: 1944
مقالات سبق نشرها في مجلة مرقس أعداد من شهر سبتمبر إلى ديسمبر 1989