الكتاب المسيحي

الشركة في النصرة النهائية – أوليفيه كليمانت

4058105512

 

+ قصة «سقوط الإنسان» في سفر التكوين تحظى عند بعض الآباء بتفسير غاية في العمق. فـ «شجرة الحياة» كانت شجرة التأمل وإمكانية معرفة العالم من خلال الله. والإنسان لم يكن ليقدر أن يقترب منها، إلا بعد إعداد طويل، وإلا احترق من وَهَج النور الإلهي، إذا دخل إليه سواء في حالة من عدم الإدراك الطفولي (المفهوم المُحبب لدى القديس إيرينيئوس)، أو في موقف مطمع أناني لحب المعرفة لاستهلاك العالم بشراسة بدلاً من مراعاته وإعطائه. كان لابد له من النضوج ليبلغ الإنسان الوعي الروحي الكامل بتجرد قلبي حر، وبإيمان ورجاء وطيد واثق من محبة الله شخصياً… من جهة ما يعطيع من وصايا وتحذيرات هي لخيره وحياته حتى لا يخدعه عدو الخير مرة أخرى فيما بعد.

+ أراد الإنسان أن «يستحوذ على الإلهيات بدون الله». أما الله فقد أقصاه عن شجرة الحياة حتى يُنجيه من وهم التألُّه ومن «عبادة الذات»، مما كان سيعني في الواقع جحيماً لا خلاص منه… حيث كان الموت هو عاقبة هذا الانحراف، ولكنه كان أيضاً علاجاً للإنسان إذ جعله يدرك محدوديته، وفي الوقت نفسه فتح أمامه باب النعمة التي صار يُكنى عنها بـ «أقمصة الجلد»، بحسب رواية سفر التكوين، تلك الأقمصة التي ألبسها الله للإنسان الساقط، وهذ كانت تشير في الوقت نفسه إلى الحياة المخفية وراء الموت، (لأن الأقمصة كانت من جلد حيوان ميت ولكنها تستر داخلها جسد كائن حي يحمل صورة الله)… لأنه كما يقول القديس إيرينيئوس: «السقوط» حجب صورة الله في الإنسان، ولكنه لم يلاشِها بأي وجه من الوجوه.

+ رواية «السقوط» هي في الواقع تشير إلى حقيقة فعلية وحياة أصيلة عاشها الإنسان في بدايته خلقته تفوق قدراتنا الحالية في المعرفة، حيث كانت الأحوال الزمنية والمكانية والمادية تختلف تماماً عما هي عليه اليوم (ومثل تلك الحالة لا تقدر أن ندركها ونحسها إلا في بشرية متجلية في المسيح). وما نسميه بالتطور ليس هو إلا افتقاداً من جهة الحكمة الإلهية، واسترداداً رحيماً لهذه الخليقة الساقطة…

+ «السقوط» مازال يحدث في الطبيعة البشرية، كذلك الأعمال الكبرى لأحداث تاريخ الخلاص لا تزال حتى الآن سارية المفعول. فكلمة الله المتجسد لم يكفّ عن أن يقهر الموت بالموت. ويولِّد من عَالم مُفتَّت حياة روحية كاملة. فالصليب والقيامة ما انفكا يعملان في صميم الكون. حتى إن تجسد الكلمة وآلامه ما زال يُخرجان من هذه الحياة الممتزجة بالموت، من هذه الحياة المغلوبة والمقهورة دائماً، حياةً ممتزجة بالأبدية حيث فيها يُدعى الإنسان للمشاركة في النصرة الحاسمة النهائية.

[الله وضع الإنسان في الفردوس. وأياًّ كان موضع هذا الفردوس، فقد منحه فيه الحرية، حتى تكون سعادته مطلقة فيحص وكأنه صاحبٌ لهذا المكان الذي أُنعم به عليه. ثم عُهد إليه بأن يعتني بالنباتات الدائمة، وربما يُكنى بها عن الأفكار الصالحة في الإلهيات.. وكتدريب لحريته (على اختيار الأفضل لحياته) أعطاه ناموساً في صورة وصية: الأشجار التي يمكنه أن يقطف ثمارها وتلك التي لا ينبغي أن يمد يده إليها. وهذه كانت شجرة المعرفة.
والله لم يغرسها في الأصل لضرر الإنسان، لأن تلك، في رأيي، كانت شجرة التأمل الذي يقدر أن يقف على أسرارها، دونما خطورة، إلا أولئك الذين بلغ استعدادهم الروحي إلى حد الكمال الكافي.
وعلى النقيض، لا يمكن أن تكون هذه الشجرة للنفوس الجسورة غير المتهذبة روحياً والتي تسود عليها الشهوة الحيوانية الجامحة، إلا مصدر شؤم، تماماً كما أن الطعام القوى (أو الصلد) ضارٌ بالأطفال الصغار الذي هم ما زالوا في حاجة إلى اللبن. ولكن بحسد إبليس… ويا لحسرة ضعفي المتخاذل! وهو نفسه الذي كان عليه أبوانا الأولان –قد غُلِبَ الإنسان الأول من ضعفه وسفط من مرتبته… فحُرم من شجرة الحياة ومن الفردوس، بل ومن الله نفسه، واكتسى بقمصان الجلد التي كانت تشير في الوقت نفسه أنه بدأ يحس بكثافة جسد بشريته المتمرد والقابل للموت. ولأول مرة يعي عيب نفسه وقباحته وعدم استحقاقه فيحاول أن يتوارى من الله. فحُكم عليه بالموت أيضاً… حتى لا يبقى الشر فيه مؤبَّداً. وهكذا كان قصاص المحبة الإلهية للبشرية (الساقطة)، وهذه هي الطريقة في العقاب أنها دائماً لخير الإنسان.]1 القديس غريغوريوس النزينزي

[كذلك لا يمكن أن يكون الله مسئولاً عن الشر، لأنه قد خَلق ما له كيان ووجود حقيقي، ولم يخلق العدم (لأن الشر هو عدم الخير)، فهو –تعالى- الذي أوجد حاسة البصر لا عدم الرؤية… وهذا دون أن يخضع الإنسان لإرادته المطلقة قسراً باجتذابه نحو الخير رغماً عنه كمادة عادة الحياة. كما إذا ما توهج النور بلمعان ناصع جداً… فأغلق الإنسان بمحض إرادته إرادة بصره، بإرخاء جفنيه، فهنا لا يمكننا أن نقول إن الشمس مسئولة عن عدم رؤيته.]2 القديس غريغوريوس النيصي

[كان الله قادراً أن يعطي الكمال للإنسان منذ نشأته، لأن ذلك كان في إمكان الله، ولكن الإنسان كان قاصراً عن بلوعه واستيعابه لأنه كان ما يزال بعد صبياً (في إدراكه).]3 القديس إيرينيئوس

[إنه في هذا الأمر الأساسي يختلف الله تماماً عن الإنسان: الله خالقٌ والإنسان مخلوق. فالخالق يبقى دائماً كائناً كما هو، بينما المخلوق يتخذ بالضرورة بداية، ثم ينمو إلى حالة وسط، بعدها يبلغ إلى كمال النضوج…
الإنسان جُبل على النمر (في الحياة الروحية) والتقدم نحو الله. فبقدر ما يبقى الله دائماً كما هو، بقدر ما يبقى الإنسان قائماً في الله متقدماً دائماً نحو الله.]4 القديس إيرينيئوس

[كيف (تريد) أن تكون إلهاً وأنت لم تصر بعد إنساناً (ناضجاً)؟ وكيف تكون قد بلغت إلى الكمال، وأنت مازلت بعد في بداية خلقتك؟.]5

[هذه هي العلة التي لأجلها طرد الله الإنسان من الفردوس، وأبعده عن شجرة الحياة. لقد تصرف معه هكذا رأفة به حتى لا يبقى الإنسان دائماً حليف التعدي، ولكي لا تظل الخطيئة التي أُمسك فيها مُلازمة له أبداً، ولا يظل الشر يفتُّ في عضد الإنسان بلا توقف فلا يكون له شفاء. لذا أمسكه (الله) وهو في تعديه، بإدخاله الموت حائلاً ليوقف ديمومته في التمادي… مُحدداً له أجلاً باضمحلال الجسد الذي أُخذ من الأرض، ولكي إذا ما أمكن للإنسان أن «يموت عن الخطيئة» (رو 2:6) يبدأ يوماً ما في أن يحيا لله.]6 القديس إيرينيئوس

__________________

ترجمة وإعداد: رهبان دير القديس أنبا مقار
مقالات مُترجمة عن كتاب:
SOURCES: Les Mystiques Chrétiens des Origines (منابع الروحانية المسيحية في أصولها الأولى). للفيلسوف الفرنسي المعاصر والعالم الآبائي أوليفيه كليمانت Olivier Clément
الناشر: دار مجلة مرقس
الطبعة الأولى: 1944
مقالات سبق نشرها في مجلة مرقس أعداد من شهر سبتمبر إلى ديسمبر 1989