الكتاب المسيحيتلخيص واقتباسات ومراجعات

الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر من كتاب الحياة بعد الموت – تأليف إيروثيئوس- مطران نافباكتوس

الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر من كتاب الحياة بعد الموت – تأليف إيروثيئوس- مطران نافباكتوس

الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر
الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر

 

الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر من كتاب الحياة بعد الموت

 تأليف إيروثيئوس- مطران نافباكتوس

(1) مثل الغني ولعازر:
“كان إنسان غني وكان يلبس الارجوان والبز وهو يتنعم كل يوم مترفهاً. وكان مسكين اسمه لعازر الذي طُرح عند بابه مضروباً بالقروح. ويشتهي أن يشبع من القتات الساقط من مائدة الغني. بل كانت الكلاب تأتي وتلحس قروحه. فمات المسكين وحملته الملائكة إلي حضن إبراهيم. ومات الغني أيضاً ودُفن. فرفع عينيه في الجحيم وهو في العذاب ورأي إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه. فنادي وقال يا أبي إبراهيم ارحمني وأرسل لعازر ليبل طرف إصبعه بماء ويبرد لساني لأني معذب في هذا اللهيب. فقال إبراهيم يا أبني أذكر انك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب. وفوق هذا كله بيننا وبينكم هوة عظيمة قد أثبتت حتي إن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون ولا الذين من هناك يجتازون إلينا. فقال أسألك يا أبت أن ترسله إلي بيت أبي. لأن لي خمسة إخوة. حتي يشهد لهم لكيلا يأتوا هم أيضاً إلي موضع العذاب هذا. قال له إبراهيم عندهم موسي والانبياء ليسمعوا منهم. فقال لا يا ابي إبراهيم. بل إذا مضي غليهم واحد من الاموات يتوبون. فقال له إن كانوا لا يسمعون من موسي والانبياء ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون” (لو19:16-31).

(2) التفسير التحليلي للمثل:
يستطيع الدارس لمثل السيد المسيح المشهور أن يلاحظ العيد من الأمور. فمن الممكن أن يتناول ابعاده الاجتماعية أو حتي يستخلص منه العديد من الاستنتاجات الأخلاقية. أي أننا سوف نهتم بتحليل المثل من منظور علي الأخرويات.

النقطة الأولي:
لا يتعلق المثل كما نري بالحياة بعد المجيء الثاني للمسيح، ولكن بحياة الروح في الفترة ما بين موت الشخص عندما تغادر روحه جسده والمجيء الثاني للمسيح. تُسمي هذه الفترة “الحالة المتوسطة للأرواح”. توجد أقوال أخري تتكلم عم مجيئه الثاني عندما يأتي ليدين الناس. وقبل ذلك ستحدث قيامة للأجساد، عندما تعود الأرواح لأجسادها ثانية، ويجني المرء ثمرة أعماله في حياته علي الأرض.

النقطة الثانية: وهي تشير إلي وجود الموت في حياة الإنسان.
لقد مات كل من الرجل الغني ولعازر. والموت هو انفصال الروح عن الجسد. تسمي هذه الحالة أيضاً “رقاداً” لأن قيامة المسيح غلبت الموت. لقد غلب السيد المسيح الموت علي المستوي الوجودي وبواسطة آلامه وصلبه وقيامته، وأعطي الإنسان إمكانية التغلب عليه بأن يعيش في الكنيسة. تظهر حقيقة كون الموت رقاداً وحالة مؤقتة في الطريقة التي يموت بها القديسون، إذ أنهم جميعهم لديهم رجاء في المسيح، يكون هذا معلناً في رفاتهم التي لا تفسد وتصنع المعجزات.
لم يخلق الله الموت ولكن الموت اندس في الطبيعة كثمرة لخطية الإنسان وانفصاله عن الله. يوجد موت للجسد موت للنفس. وموت النفس هو تخلي نعمة الله عنها، أما موت الجسد فهو انفصال النفس عن الجسد.
وحيث ان الجميع يرثون الفساد والموت، يتذوق جميع الناس الغموض المروع الذي للموت. وبمعني آخر، نحن نولد لكي نموت. فالموت هو الحدث المؤكد الاكيد في حياتنا. حتي الفلاسفة الوجوديون المعاصرين يقولون أن الحقيقة المؤكدة هي “الوجود من أجل الموت”.
وعلي الرغم من أن الموت هو الحدث الأكيد، إلا أن يوم وساعة الموت هما غير معروفين فلا أحد يعرف متي سيموت. ولكن الأمر الأهم هو أن يعيش المرء بطريقة حسنة بحيث تصبح كيفية الموت هي الحياة الابدية.
يقول الكتاب في نص لمثل: “فمات المسكين” و”مات الغني أيضاً”. الموت هو إذاً أكبر ديمقراطية لأنه ليس فيه استثناءات.

النقطة الثالثة:
بعد ن تركت نفس لعازر جسده، استقبلته الملائكة وحملته إلي حضن إبراهيم. وهذا يعني أنه توجد ملائكة. وبالطبع فإن الملاك الحارس لكل شخص هو الذي يستقبل نفس البار ويحملها إلي الله.
وعلي عكس ذلك، يقول مثل آخر أن الشياطين تستقبل نفوس الخطاة غير التائبين. فقد سمع الغني صوتاً من الله يقول له: “يا غبي!! هذه الليلة تُطلب نفسك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون؟” (لو20:12). إن فعل “تطلب” يوحي بالشياطين التي تطلب نفس الشخص الخاطئ لكي تتحكم فيه إلي الأبد.
وبالتالي ففي ساعة الموت الرهيبة، عندما تنفصل النفس عن اتحادها بالجسد بالقوة، تحدث أمور مرعبة. تستقبل الملائكة نفوس الأبرار، وتستقبل الشياطين نفوس الخطاة. تتحدث تعاليم آباء الكنيسة عن “المحطات الجمركية” التي هي الشياطين، أرواح الهواء التي تريد وتحاول أن تحكم نفوس كل الناس إلي الأبد. وبالطبع فإن نفوس القديسين التي كانت قد اتحدت بالمسيح وتحمل ختم الروح القدس لا يمكن أن تحكمها الشياطين.
عندما يتحدث آباء الكنيسة عن “المحطات الجمركية” فإنهم يعنون كلا من الكراهية والغضب العدواني الذي للشياطين، ووجود الأهواء التي تطلب الإشباع ولكنها لا يمكن أن تُشبع بسبب عدم وجود الجسد. إن هذه الحالة بالضبط هي التي تخنق النفس والتي تشعرها بضيق رهيب. يشبه عذاب النفس هذا بالحبس الانفرادي التام لشخص ما في سجن بدون وجود آية إمكانية للنوم والطعام وملاقاة أي شخص وما إلي ذلك، وعندئذ تصبح أهواؤه وكل كيانه في حالة هياج.
إن حقيقة استقبال نفوس الناس إما بواسطة الملائكة أو بواسطة الشياطين هي حقيقة نسبية تعتمد علي حالة الشخص. وكما يقول الآباء فإن الملائكة والنفوس هي أرواح عاقلة بالمقارنة بالجسد المادي، ولكنها بالمقارنة بالله تكون مادية إلي حد ما. من أجل ذلك تسمي الملائكة كيانات أثيرية، فهي ليست غير مادية بصورة مطلقة. بالإضافة إلي ذلك فإن النفس مخلوقة ، وهذا يعني أنها مخلوقة بواسطة الله. إنها خالدة بواسطة النهمة لأن الخلود هو عطية الله. كل خليقة لها بداية ونهاية. وطالما أن النفس مخلوقة، فهي لها بداية محددة ولكن ليس لها نهاية لأن الله أراد لها ذلك.

النقطة الرابعة:
لقد ذهبت نفس لعازر لحضن إبراهيم ونفس الرجل الغني إلي الجحيم. ومه هذا يقول السيد المسيح في المثل أن لعازر ذهب إلي حضن إبراهيم وأن هذا الرجل الغني إلي الجحيم ثم يقول بعد ذلك أن الرجل الغني ” رأي إبراهيم من بعيد ولعازر في حضنه”.
إن هذا القول مهم جداً لأنه يعني أنه علي الرغم من انفصال النفس عن الجسد، فإن الاقنوم أو الجوهر أو الشخص لا يُفقد. في الواقع، لم توجد النفس قبل الجسد ولكنها خلقت في نفس الوقت مع الجسد، ومع ذلك لا تُحتسب لا النفس وحدها ولا الجسد وحده كمكون للإنسان. بالإضافة إلي ذلك، وعلي الرغم من الانفصال المؤقت للنفس عن الجسد إلا أن الشخص لا يُفقد. يظهر ذلك في الحقيقة أن النفس تحتفظ بوعيها، وكما يشرح الآباء فإن نفس الإنسان تتعرف علي مكونات جسدها الخاص الذي يبقي في الأرض والتي قد تكون متفرقة أو متحللة إلي العناصر التي تكونها. وفي المجيء الثاني، وبنعمة الرب سوف تتحد هذه العناصر مع جسدها وسوف يتجمع الإنسان بكليته، وستصبح بالطبع أجساد كل من الأبرار والخطاة روحانية، بمعني أنها لن تحتاج للطعام ولن تكون محصورة بمسافات ولا بمحدودات. إن القيامة هي منحة موهوبة لكل الناس الأبرار والأشرار.
يجب علينا أن نلاحظ أن السيد المسيح في هذا المثل يذكر اسم الرجل الفقير ولكنه لا يعرف اسم الرجل الغني. وهذا يعني أن لعازر بسبب أنه عاش مع الله كان “شخصاً” من منظور خلاصي، أي أقنوم حقيقي، علي الحين أن الرجل الغني علي الرغم من كونه إنساناً لم يكن له أقنوم من منظور خلاصي. وهذا يعني أن الإنسان الحقيقي ليس هو مجرد من له نفس وجسد، ولكنه من يقتني نعمة الله في نفسه وجسده. وعلي الرغم من أن الذي لا يقتني الروح القدس هو شخص من المنظور الوجودي، إلا أنه ليس شخصاً بالنسبة لله وذلك بسبب بسيط وهو أنه استُعبد للماديات، وبدلاً من أن يتحول نحو الله، تحول عقله نحو المادة واستُعبد لها.

النقطة الخامسة:
يقول المثل أن الرجل الغني إذ وجد نفسه في الجحيم رأي إبراهيم ولعازر في حضنه. يُفهم هنا شخص إبراهيم علي انه يعني الله. يعني الوجود في حضن الله الوجود في شركة مع الله.
في الحضن وراء الصدر يوجد قلب الإنسان. والقلب الذي هو مصدر الحياة البيولوجية هو رمز للحب. وكلما زاد الحب كلما زادت المعرفة، طالما أن المعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالحب. وفي الواقع يشكل هذا الحب الشركة والاتحاد. وبالتالي فإنه لكي يكون الشخص في الحضن عليه أن يكون مرتبطاً بالمحبوب، وهذا يعني وجود اتحاد بينهما.
وبالتالي فإن القول بأن لعازر في حضن إبراهيم يشير إلي اتحاده بالله، وهذا التحاد يرتبط بالمعرفة الروحية والحب. وإننا عندما نتحدث عن معرفة الله نقصد “الشركة في الوجود”. فهي ليست معرفة ذهنية ولكنها معرفة مرتبطة بالحب وبملء الحياة.
لم يبدو أن لعازر كان مرتبكاً بالمشكلة الرهيبة التي واجهها الغني. إنه لا يري الهاوية علي حين يري الرجل الغني مجد الفردوس. وفي الواقع كما يقول للآباء، فإن الشخص الذي يعيش في النور غير المخلوق وفي الرؤية العظيمة لله ينسي العالم. فالنور يكون عظيماً وباهراً لدرجة لا تسمح للشخص بأن يري أي شيء أخر. وهذا لا يعني أن القديسين لا يصلون لأجل العالم كله. إنهم يصلون ويتوسلون لله لأنهم في الحقيقة لديهم شركة كبيرة معه، إلا أنهم في حالة لا نستطيع أن نفهمها. ولن نفهمها إلا لو أمعنا النظر في الخبرات الإلهية للقديسين.

النقطة السادسة:
بينما كان لعازر في حضن إبراهيم، كان الرجل الغني يحترق في الجحيم حتي أنه طلب من إبراهيم أن يرسل لعازر ليبرد لسانه لأنه كما عبر هو عن نفسه: “لأني معذب في هذا اللهيب”. هنا يتعلق الأمر بالجحيم وليس بجهنم. لأن جهنم تبدأ بعد المجيء الثاني للمسيح والدينونة الآتية، علي حين تختبر نفوس الخطاة الجحيم بعد رحيلها من الجسد وبحسب تعاليم الآباء القديسين فإن الجحيم هو مكان مدرك بالعقل، إنه عربون جهنم حيث يتلقى الشخص قوي الله الحارقة.
لقد دارت محاورات كثيرة حول هذه المسائل في مجمع فيرارا- فلورنسا حيث أعلن مرقس آفيانيكوس عن آرائه وتم الاحتفاظ بها. ليست النار التي كان الرجل الغني يحترق فيها هي ما يسميه اللاتين النار المطهرة أو “المطهر” الذي ينبغي علي كل الناس العبور عليها. فهي ليست تاراً مخلوقة بل غير مخلوقة. إننا نعني أنه حتي الخطاة يتلقون أشعة النور الإلهي، ولكن لأنهم يموتون وهم غير تائبين ولم يحصلوا علي الشفاء فإنهم يختبرون القوي الحارقة للنور. وبالتالي يستقبل الناس نفس النعمة إما كنور وإما كنار بحسب درجة شفائهم أو مرضهم.
يجب علينا أيضاً نلاحظ أن الرجل الغني رأي إبراهيم ولعازر في حضنه. لقد رأي مجد إبراهيم دون أن يكون له نصيب فيه. وعلي العكس من ذلك رأي لعازر مجد إبراهيم واشترك فيه. هذه نقطة مهمة لأنها تظهر أن كل واحد سوف يري الله في الحياة الآتية، ولكن البار وليس الخاطئ هو الذي سيحصل علي شركة واتحاد. إن المثال المميز علي ذلك ما قاله المسيح عن الدينونة الآتية، فسوف يري الجميع القاضي وسوف يتحدث الجميع معه، ولكن البعض سيتمتعون بمجده والبعض الآخر سيختبرون القوي الحارقة للنعمة الإلهية.

النقطة السابعة:
لقد كان الرجل الغني منشغلاً بإخوته العائشين في العالم وطلب من إبراهيم أن يرسل لعازر ليبشرهم بالتوبة. وبالتالي فإنه علي الرغم من انفصال نفس الإنسان عن العالم الحاضر إلا أنه لا يزال علي علم بما حدث فيه، ولا يزال لديه اهتماماً اجتماعياً.
تُظهر هذه الحقيقة، بالإضافة إلي عناصر آخري، ما قُلناه من قبل عن أن مثل الغني ولعازر لا يخص الحياة بعد المجيء الثاني للمسيح ولكنه يتعلق بالحياة حتي المجيء الثاني. إنه يتعلق بصورة واضحة بما يسمي الحالة المتوسطة للنفوس.
يهتم القديسون لخلاص العالم، فهم بنعمة الرب يسمعون صلواتنا ويرفعونها لله. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نصلي للقديسين. والهدف من الأعياد المخصصة لذكراهم هو إظهار كونهم قديسين، وكونهم متحدين بالله، وكونهم منتظرين قيامة أجسادهم، وكونهم بخلودهم قد تلقوا بالفعل عربون الدهر الآتي. ونحن أيضاً نهتم بأولئك الراقدين. إننا نصلي للقديسين لكي يصلوا لله من أجلنا ونطلب شفاعتهم، بينما نصلي لله أيضاً لكي يرحم كل الآخرين الذين تنيحوا. بخلاف كون هذا دليلاً علي التواصل بيننا، فهو يعبر في نفس الوقت عن شيء أكثر عمقاً.
بحسب تعاليم الآباء القديسين فإنه عندما يدخل شخص ما في حالة توبة، أي في مرحلة التطهير، فإنه يتقدم باستمرار. ويستمر السعي نحو الكمال في كل من المرحلة المتوسطة وفي الحياة بعد المجيء الثاني. إن مراحل الحياة الروحية هي التطهير، والاستنارة، والاتحاد بالله. ولا يمكن اعتبار هذه المراحل كحالات جامدة ولكن كدرجات من الاشتراك في نعمة الله. فلو يجاهد شخص ما لكي يتطهر، فإن نعمة الله التي تطهره تسمي “قوة مطهرة”. وعندما يستنير النوس، فإن هذا يعني أن يتلقى قوة الله التي تمنحه استنارة، وهذه تسمى “القوة المنيرة”. وعندما يدخل في عملية الاتحاد بالله، فإن هذا يحدث من خلال نعمة الله التي تسمي “مؤلهة”. هذه العملية تكون مستمرة. وبالتالي يتقدم أولئك الذين تابوا قبل رحيل نفوسهم من الجسد ويستقبلون نعمة الله غير المخلوقة باطراد. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نصنع تذكارات ونصلي للراقدين.
علي أية حال طالما أن أولئك الذين لم يتوبوا قبل أن تترك نفوسهم أجسادهم لا تكون لديهم رؤية روحية، فإنهم يختبرون قوة الله الحارقة فقط ولكن يشتركوا أبداً في ما هو صالح. إلا أننا نصلي من أجل الجميع لأننا لا نعرف حالتهم الروحية الداخلية.

النقطة الثامنة:
يقول المثل أنه كانت هناك “هوة عظيمة” بين الجحيم الذي وجد فيه الرجل الغني وبين المكان الذي وجد فيه إبراهيم، وأنه كان من المستحيل العبور من مكان آخر.
من البديهي أن الأمر لا يتعلق بأماكن محددة ولكن كما قلنا من قبل يتعلق الأمر بطرق حياة خاصة. ويوجد فرق بين الفردوس والجحيم كطرق حياة خاصة.
لا وجود للفردوس والملكوت في منظور الله، ولكن في منظور الإنسان. فالله يرسل نعمته لكل الناس طالما أنه “يشرق شمسه علي الأشرار والصالحين ويمطر علي الأبرار والظالمين”. ولو أن الله أعطانا وصية أن نحب الجميع وحتي أعدائنا، فإنه بلا شك يفعل الشيء. فمن المستحيل ألا يحب الله الخطاة أيضاً، إلا أن كل شخص يشعر بمحبة الله بطريقة مختلفة بحسب حالته الروحية.
للنور خاصيتان: الإنارة والحرق. ولو كان لدي شخص ما إبصاراً جيداً فإنه يستفيد من خاصية الإنارة التي لنور الشمس ويستمتع بكل الخليقة. ولكن لو وجد شخص آخر محروماً من عينيه وإبصاره فإنه يشعر بالضوء علي أنه حارق. هكذا هو الحال أيضاً في الحياة الآتية وفي حياة النفس بعد مغادرة الجسد. سوف يحب الله الخطاة أيضاً، ولكنهم لن يكونوا قادرين علي استقبال هذا الحب كنور، ولكنهم سيستقبلونه كنار حيث أنهم لن يكونوا مقتنين لعين وبصيرة روحية.
يشبه هذا ما يحدث في القربان المقدس. يستطيع الجميع التناول منه ولكنه يكون نوراً وحياة للمستعدين، علي حين أنه يكون دينونة وحكماً لغير المستحقين.
تظهر الكنيسة ذلك في أيقونة المجيء الثاني حيث نري القديسين في النور المشع من عرش الله، ومن نفس العرش ينبع نهر من النار موجود فيه الخطاة غير التائبين.
من أجل هذا تعطي الكنيسة الأرثوذكسية اهتماماً كبيراً لشفاء الإنسان. وتُعتبر الكنيسة كمستشفى روحي ومصحة تشفي العين الروحية التي هي العقل المريض المحتاج للشفاء. هذا هو كل عمل الكنيسة.

النقطة التاسعة:
لم يجب إبراهيم علي تضرع الرجل الغني بأن يرسل لعازر إلي الأرض ليعظ أخوته لكي يتوبوا. وبرر إبراهيم هذا يقوله أن الذين لا يسمعون لموسي والأنبياء “ولا إن قام واحد من الأموات يصدقون”.
لا يستطيع الشخص الجسداني أن يتوب مهما كان عدد المعجزات التي قد يراها في حياته. إنها حقيقة، إذ أنه يعيش في غفلة مميتة. فعندما لا تكون حرية الشخص فعالة، لا توجد توبه. فكل شيء لا يحدث إلا بنعمة وتعاون الإنسان.
إن أعظم حقيقة في التاريخ هي تجسد المسيح وقيامته وتأسيس الكنيسة التي هي جسد المسيح القائم المتجسد، الإله الإنسان. ولو لم يتأثر الشخص بهذه الحقيقة المذهلة، ولو لم يقتنع بحياة العديد من القديسين الذين هم أعضاء في جسد المسيح القائم من الأموات، فإنه لن يقتنع ولا حتي بأعظم معجزة.
ليس خلاص الإنسان وولادته الثانية مسألة سحر وشعوذة، ولكنه ثمرة لتعبيره الحر عن إرادته، إنه ثمرة للألم والجهاد والعمل الشاق.
ومع الأسف، يرضي الكثيرون أنفسهم في هذه الأيام بالأحداث الخارجية الخارقة. إن الاقتناع بوجود حياة أخري هو مسألة حساسية روحية داخلية. لأنه حتي لو قام واحد من الأموات فسوف يُساء فهمه علي أنه خيال.
ينتشر اليوم بكثرة الحديث عما يسمي “خبرات ما بعد الموت” حيث يدعي بعض الاشخاص أن أرواحهم تركت أجسادهم أو أنها قاربت الخروج ثم عادت ثانية إلي الجسد، ويعددون كل الأشياء الرهيبة التي رأوها و واجهوها.
إننا في الكنيسة الأرثوذكسية نقول أنه توجد حالات عادت فيها الروح إلي الجسد ثانية، بمعني أنهم أقيموا من الموت بقوة المسيح. ولكنها بأي حال من الأحوال حالات استثنائية لا تحدث لكل احد. يوجد قديسون تعرضوا لخبرات فظيعة عندما رأوا أثناء حياتهم الشخصية الفردوس والجحيم، واختبروا نيران جهنم، ورأوا ملائكة وشياطين. ولكنهم عندما رجعوا لأنفسهم عاشوا حياة التوبة ونادوا بها الآخرين. علي أية حال إننا نري أن معظم خبرات ما بعد الموت تكون إما شيطانية، أو ثمرة لخبرات مكبوتة أو خيالات، أو انها نتيجة لعقاقير منومة ومهدئة تُعطي لمنع الألم في محنة المرض المرعبة. من المؤكد أن الأمر يتطلب تمييزاً كبيراً لملاحظة الفرق بين هذه الحالات إن كانت من عند الله أو الشيطان أو اضطرابات نفسية وعضوية.
إننا في الكنيسة لا ننتظر قيامة قديسين أو خبرات مثل هذه لكي نؤمن. فلدينا الكتاب المقدس، وسيرة الأنبياء والرسل والقديسون، ولدينا أقوالهم وتعاليمهم، بالإضافة إلي رفاتهم، ونحن نؤمن بوجود حياة أبدية. وفي الوقت الحالي وهب الله لكل منا أن يختبر في قلبه ما هو الجحيم وما هو الفردوس. وبخلاف هذه الأمور، فنحن نحفظ وصايا المسيح لكي نحصل علي الشفاء وحتي نحل العديد من المشاكل الوجودية والشخصية والاجتماعية والبيئية. لذا يجعلنا التمسك بوصايا الله أشخاصاً متزنين.

النقطة العاشرة:
يقترح مثل الغني ولعازر الطريقة التي ينبغي علينا اتباعها لكي نحصل علي الشفاء، وبالتالي نختبر الله كنور وليس كنار بعد الموت وبعد المجيء الثاني للمسيح. فلقد قال إبراهيم للرجل الغني: “عندهم موسي والأنبياء….”، أي أنه ينبغي علينا أن نراعي الناموس ونطيع أنبياء كل عصر.
النبي هو شخص يري بنعمة الله أسرار الدهر الآتي، كما أنه يكون قد تذوق بالفعل ملكوت السموات. يوجد العديد من أولئك الأنبياء في كل من العهدين القديم والجديد. لقد تلقوا هم أنفسهم الوحي، وعاشوا ملكوت الله بأنفسهم واعتادوا علي أسراره ثم أعلنوها للناس.
يقوم الأنبياء، مثلهم مثل اللاهوتيين الحقيقيين والآباء الروحيين، بتحديد الناس وقيادتهم نحو الحياة. فالإرشاد الروحي يرتبط بإعادة الولادة الروحية للإنسان.
إننا في الواقع لا نستطيع أن نتجدد ما لم نرتبط بشخص متحد بالله، أي بنبي. وحتي في أيامنا هذه يوجد أنبياء يكرزون بالتوبة، ويحولون قلوبنا نحو الله ويوصون بطريقة تفكير وحياة مختلفة. وحتي لو لم نستطع الالتقاء بمثل هذا النبي فلدينا كلمات الأنبياء التي نستطيع قراءتها فنتعلم ما هو ملكوت السموات وما ينبغي علينا فعله لكي نحصل عليه.

 

الحياة بعد الموت بحسب مثل الغني ولعازر

[من كتاب الحياة بعد الموت

تأليف ايروثيئوس مطران نافباكتوس

ترجمة دكتورة نيفين سعد]

للتحميل اضغط هنا