الكتاب المسيحيترجمات

 من فصل مصدر الموت- من كتاب يا موت أين شوكتك – ألكسندر شميمن – ترجمة م / اشرف بشير

15230545 10154377109883778 4384684042401476253 n

 من فصل مصدر الموت

The Origin of Death

من كتاب يا موت أين شوكتك 

 O Death, Where Is Thy Sting

اللاهوتي الأرثوذوكسي الأب ألكسندر شميمن

Alexander Schmemann

عميد معهد القديس فلاديمير للدراسات اللاهوتية

ترجمة م / اشرف بشير

 

[ هل غاية الحياة هي الموت ؟ هل الموت هو تخلص من عبء الجسد ؟ هل الله هو من عاقب البشر بالموت وسببه لهم ؟ هل الموت خطوة طبيعية انتقالية في الحياة ؟ هل السرد الأدبي للسقوط حقيقي حرفي ؟ هل الموت هو الحق المطلق ؟ هل المسيحية متصالحة مع الموت كخطوة طبيعية في الحياة ؟ هل السقوط عقوبة طاعة، أم نتيجة انفصال عن الحياة ؟ هل المسيحية ديانة أخروية ترذل الحياة الحاضرة ؟ هل الملكوت هو ما بعد الموت فقط، أم هذا الفكر وهم انساني ؟ ]

غاية الديانة [والمسيحية ليست ديانة]، وغاية الفلسفة، هي أن تسمح للإنسان أن يتقبل الموت، وإن أمكن حتى أن تجعل الموت مرغوب فيه ! وكأن الموت هو تحرر من حِمل الجسد. وكأن الموت تحرر من المعاناة، وكأنه تحرر من هذا العالم المنشغل المتغير، وكأن الموت “بداية الأبدية” ! في الحقيقة هذا ملخص كل التعاليم الدينية والفلسفية: قبل المسيح، وخارج المسيحية، في الديانات البدائية، وفي الفلسفة اليونانية، وفي البوذية، وغيرها.

ولكن المسيح بَكَى على قبر صديقه، وبفعله ها فقد أوضح نضاله مع الموت، وأوضح رفضه أن يعترف به ويتقبله، إذ توقف الموت [بالمسيح] عن أن يكون حقيقة عادية وطبيعية، بل اتضح أنه شئ غريب، غير طبيعي، مخيف، وشاذ، وتم الاعتراف به كعدو: “آخِرُ عَدُوٍّ يُبْطَلُ هُوَ الْمَوْتُ” (1 كو 15: 26) …

“ليس الموت من صنع الله، ولا هلاك الاحياء يسره” (حك 1: 13). هذا يعني أنه في العالم، في الخليقة، كانت هناك قوة لم يكن الله مصدرها، قوة لم يبتغيها الله، ولا خلقها، تعارضه، ومستقلة عنه. فالله خلق الحياة، دائماً وفي كل موضع الله نفسه هو الحياة ومعطي الحياة. وفي قصة الكتاب المقدس التي هي دائما “جديدة” ودائما “طفولية”، يبتهج الله في عالمه المتألق بنوره، وفي بهجته بالحياة [التي وهبها للمخلوقات].

أكثر تحديداً، لنأتي بهذه القصة المستعلنة في الكتاب المقدس إلى نتيجتها، يمكننا أن نصيغها كالتالي: الموت هو رفض الله، ولو كان الموت طبيعياً: إن كان [كما تدعي الفلسفات والديانات المتعددة] هو الحق المطلق عن الحياة وعن العالم، ولو كان الموت القانون الأسمى وغير المتغير لكل الخليقة، لكان لا يوجد الله ! ولكانت كل القصة عن الخليقة وعن الفرح وعن نور الحياة: أكذوبة بالكامل ! …

الإنسان ليس له حياة في ذاته، دائماً ما يأخذ الحياة من خارجه، من الآخرين. فهو دائما ما يعتمد على الآخر، كمثال: الهواء والطعام والنور والدفء والماء … إن العالم هو استعلان دائم لله عن ذاته وعن البشرية، إنه فقط وسيلة شركة مع هذا الثابت [الله]، مع الحرية والفرح بالتلاقي مع شبع الحياة الوحيد، مع حياة الحياة ذاتها، مع الله !

“أنت خلقتنا لذاتك يارب،
وقلوبنا لن ترتاح،
حتى تجد راحتها فيك”
– القديس اغسطينوس، الاعترافات

ولكن المأساة تقبع هنا في قلب التعليم المسيحي عن الخطية، أن الإنسان لم يرغب في هذه الحياة مع الله ولله. ولكنه رغب في الحياة لأجل ذاته، وفي ذاته وجد غايته، هدفه، والشبع في حياته. وبهذا الاختيار الحر لذاته وليس لله، بتفضيله لذاته عن الله، دون أن يدرك ذلك، صار الانسان غير مفصول عن العالم كعبدٍ. عبد لاعتماده على العالم، يأكل ليحيا، ولكن في أكله يشترك في ما هو مائت، لأن الطعام ليس له حياة في ذاته.

ولهذا فالموت هو ثمرة الحياة التي تلوثت وتحللت [فسدت] بشكل دائم، تحلل [فساد] أخضع الانسان ذاته له بحريته. ولأن لا حياة للإنسان في ذاته، اخضع الإنسان ذاته لعالم الموت. الله لم يخلق الموت، ولكن الإنسان هو من ادخل الموت إلى العالم، باختياره الحر، راغباً بالحياة فقط لذاته وفي ذاته، فاصلاً نفسه عن المنبع والهدف وشبع الحياة، فاصلاً نفسه عن الله ! ومن أجل هذا الموت: التحلل والانفصال، وكمؤقت و كزائل، صار الموت القانون الأسمى للحياة ! معلناً وهم طبيعة كل ما هو على الأرض [أي صار كقول سليمان باطل الأباطيل (جا 2: 2) ].

وليواسي الإنسان ذاته، خلق الحلم بعالم آخر حيث لا موت! وسعياً لهذا الحلم فقد عالمه الحاضر، وأسلمه بلا تردد للموت. وفقط إن رجعنا بالكامل إلى الإيمان المسيحي عن الموت، كجذر انحراف الانسان عن فهم شبع الحياة الحقيقي، وقتها يمكن أن نسمع مرة أخرى -وكأننا نسمع من جديد- إعلان تدمير الموت: في القيامة.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اللوحة للفنان السريالي البولاندي: Wojtek Siudmak بعنوان “الرسول”، يتضح فيها الإنسان حيث تطئ الأرض رأسه وتطرحه، رغم أنه يملك في يده قوةً غير أرضية، إلا أنه معصوب العينين عنها، فصار مقيد أرضياً ومهزوماً لا يقوى على النهوض ولا حتى على الصراخ إذ كُتِمَت أنفاسه