الكتاب المسيحي

ملخص كتاب تجسد الكلمه للقديس اثناسيوس الرسولي

صلاح الله في خلق الإنسان :

الله صالح، أو بالأحرى هو بالضرورة مصدر الصلاح. ولا يمكن
للصالح أن يبخل بشيءٍ. لهذا، فإذ لم يضن بالوجود على أحد، صنع كل الأشياء من العدم، “بكلمته” يسوع المسيح ربنا. ومن بين هؤلاء، إذ أظهر حنوًا خاصًا على جنس البشر، أكثر من سائر المخلوقات على الأرض… منحهم موهبة أكبر. فلم يكتفِ بمجرد خلق البشر، كما فعل مع باقي المخلوقات غير العاقلة… بل خلقهم على صورته، معطيًا إيَّاهم كذلك نصيبًا في قوة “كلمته”، لكي يستطيعوا، وقد خُلقوا عاقلين، أن يقيموا في الغبطة إلى الأبد، ويحيوا الحياة الحقيقية اللائقة بالقدِّيسين في الفردوس.

لكن إذ كان يعلم أيضًا كيف أن إرادة الإنسان يمكن أن تميل إلى أية الجهتين، بادر فحفظ النعمة المعطاة لهم، بوصية وبالمكان الذي وضعهم فيه. لأنه أتى بهم إلى جنته، وأعطاهم وصيته، حتى إذا حفظوا النعمة، واستمروا صالحين، أمكنهم أن يحتفظوا بالحياة في الفردوس بدون حزنٍٍ ولا ألمٍ ولا قلقٍ، بالإضافة إلى الوعد بعدم الفساد في السماء.

أما إذا خالفوا وارتدوا وصاروا أشرارًا، فسيعرفون أن يجلبوا على أنفسهم ذلك الفساد بالموت، الذي كان لهم بالطبيعة، ولا يستحقون أن يعيشوا بعد في الفردوس، بل يُطردون منه منذ ذلك الوقت، ليموتوا ويبقوا في الموت وفي الفساد. هذا هو السبب الذي لأجله قدم الكتاب المقدس تحذيرًا، قائلاً: في شخص الله “من كل شجرة في الجنة تأكل أكلاً. وأمَّا شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها. لأنك يوم تأكل منها موتًا تموت” (تك 2: 16-17). ولكن أي شيءٍ يعنيه بقوله: “موتًا تموت”، سوى أنه ليس مجرد الموت، بل أيضًا البقاء إلى الأبد في فساد الموت[1].

الإنسان يجلب على ذاته الموت والفساد :

إذن، فقد خلق الله الإنسان، وأراد له أن يبقى في عدم فساد، ولكن البشر باحتقارهم التأمل في الله ورفضهم له، ابتكروا ودبروا الشر لأنفسهم… فنالوا حكم الموت الذي اُنذروا به. ومن ذلك الحين لم يستمروا كما خُلقوا، بل فسدوا طبقًا لتدابيرهم، وساد عليهم الموت كملكٍ (رو 5: 14). وكما يقول سفر الحكمة: “صنع الله الإنسان لعدم الفساد وكصورة لأزليته”. ولكن “بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم” (حك 2: 23-24). ولما حدث هذا، بدأ البشر يموتون، بينما تفشَّى فيهم الفساد بالأكثر من ذلك الحين، مكتسبًا سلطانًا أكبر من سلطانه الطبيعي على كل الجنس البشري. لأنه جاء نتيجة لمخالفتهم الوصية، ولم يكن لتهديد الله من أثرٍ عليهم.

حتى البشر أيضًا في سوء تصرفهم لم يقفوا عند أي حد، وإنَّما امتدوا بالتدريج، متخطين كل الحدود. وأصبحوا مبتكرين للشر، وجلبوا على أنفسهم الموت والفساد. وإذ جنحوا بعد ذلك إلى الشر، وتزايدوا في كل عصيان، ولم يقفوا عند شرٍ واحدٍ، بل أخذوا يبتكرون كل الوسائل لشرورٍ جديدةٍ تالية؛ أصبحوا لا يشبعون من الخطية. فأضحى الفسق والسرقات في كل مكان، وامتلأت كل الأرض من القتل والنهب.

ومن جهة الفساد والخطأ، لم يعد هناك اكتراث بالناموس، بل صارت كل الجرائم تُمارس في كل موضعٍ، سواء الخاصة أو العامة. فاشتبكت المدن في الحرب مع المدن، وقامت الشعوب ضد الشعوب، وتمزقت الأرض بالفتن والمعارك المدنية. وصار كل إنسانٍ ينافس أصحابه في الأعمال المنافية للشرع. وحتى الجرائم التي ضد الطبيعة لم تعد بعيدة عنهم. كما يقول رسول المسيح وشاهده:: “لأن إناثهم استبدلْن الاستعمال الطبيعي بالذي على خلاف الطبيعة، وكذلك الذكور أيضًا تاركين استعمال الأنثى الطبيعي، اشتعلوا بشهوتهم بعضهم لبعض، فاعلين الفحشاء ذكورا بذكور، ونائلين في أنفسهم جزاء ضلالهم المحق” (رو 1: 26-27).

ولهذا السبب ساد الموت على البشر، وسكن الفساد فيهم. كان الجنس يهلك، والإنسان العاقل الذي خُلق على صورة الله في طريق الاختفاء. وكانت صنعة الله تقترب إلى الهلاك. إذ نال الموت من ذلك الوقت سلطانًا شرعيًا علينا (تك 2: 15). وكان من المستحيل الإفلات من الناموس، حيث وُضع بواسطة الله بسبب التعدي. وفي الحقيقة كانت النتيجة مريعة وغير لائقة[2].

مشكلة في موت الإنسان وحياته :

أولاً، كم يكون مريعًا لو أن الله بعد ما تكلم يصير كاذبًا، إن كان بعد أن حَكم بأن يموت الإنسان موتًا إن خالف الوصية، لا يموت الإنسان بعد المخالفة، بل تنكسر كلمة الله!… وأيضًا كان غير لائقٍ أن المخلوقات التي جُبلت عاقلة، وقد شاركت الكلمة، تصير إلى الهلاك! لأنه مما لا يتفق مع صلاح الله أن يبيد صنعه بسبب الخدعة التي أجراها الشيطان مع البشر.

إذ كانت هذه الخليقة العاقلة تهلك، ماذا كان على الله، في صلاحه، أن يفعل؟ أيحتمل أن يتفشَّى الفساد في البشر، ويتمكن الموت منهم؟ فما الفائدة إذن من خلقهم؟! لأنه كان من الخير ألا يُخلقوا عن أن يُتركوا للإهمال والهلاك. فإن إهمالهم يُظهر من جانب الله ضعفًا لا صلاحًا، إن كان يسمح أن يتحطم عمله الخاص بعد أن عمله… إنه لأمر مريع أن يتحطم العمل أمام عينيَّ صانعه! لهذا، لم يعد موضع تساؤل ألا يترك الإنسان لتيار الفساد، لأن ذلك غير لائق وغير جدير بصلاح الله. ولكن إن كان يجب أن يعمل حسابًا لهذه النتيجة، فمن الناحية الأخرى تقف ضدها مطالب الله العادلة. إذ يجب أن يظهر الله صادقًا في القانون الذي وضعه من جهة حكم الموت. لأنه كم يكون شاذًا بالنسبة لله أبي الحق أن يظهر كاذبًا من أجل نفعنا والمحافظة علينا![3]

التوبة لا تصلح ولا تكفي :

هنا نسأل مرة أخرى: أي نهج يمكن أن يسلكه الله؟ أيَطلب من البشر التوبة عن عصيانهم؟ لأن هذا أمر قد يُرى جديرًا بالله، إذ أنهم كما صاروا تحت الفساد بسبب التعدِّي، كذلك يوضعون ثانية – بالتوبة – في طريق عدم الفساد. لكن التوبة لا يمكنها أولاً أن توفي مطلب الله العادل، إذ أنه سيظل غير صادقٍ، إن لم يبقَ البشر في قبضة الموت.

وثانيًا، لأنها تعجز عن أن ترد البشر عن طبيعتهم (التي فسدت)، وإنَّما هي تمنعهم فقط عن أعمال الخطية. فلو كان الأمر مجرد سوء تصرف بسيط، وليس من فساد كنتيجة له، لكانت التوبة (من هذه الناحية) كافية. لكن إن كانت المخالفة حالما بدأت، اشتمل البشر بالفساد الذي أصبح طبيعة لهم، وتجردوا من النعمة التي كانت لهم، إذ كانوا في صورة الله. فأيَّة خطوة تالية كان يستلزمها الأمر؟ ومن كان يلزم لأجل هذه النعمة وهذا التجديد إلا “كلمة” الله الذي هو في البدء خلق كل شيءٍ من العدم[4].

لهذا تجسد الله الكلمة :

لهذا، كان له أن يأتي بالفساد إلى عدم فساد، وأن يُوفي المطلب العادل الذي للآب على الجميع. وحيث أنه هو كلمة الآب وفوق الكل، كانت له وحده لياقة طبيعية أن يجدد خلق كل شيءٍ، وأن يحتمل بالنيابة عن الكل، وأن يكون شفيعًا عن الكل لدى الآب. وإذ رأى “الكلمة” أن فساد البشر لا يمكن إبطاله بأيَّة وسيلة سوى الموت كشرطٍ ضروريٍ، بينما كان من المستحيل أن يتحمَّل الكلمة الموت، إذ هو غير مائت، وإذ هو ابن الآب، فلهذه الغاية أخذ لنفسه جسدًا قابلاً للموت. لكي باتحاد هذا الجسد بالكلمة الذي هو فوق الكل، يكون جديرًا بأن يموت نيابة عن الكل. ولأن الكلمة أتى وسكن فيه، يبقى في غير فساد، وبذلك ينزع الفساد من الكل بنعمة القيامة.

وبتقديم جسده للموت، الذي أخذه هو نفسه – كذبيحة وضحية خالية من كل دنسٍ – أزال الموت فورًا عن جميع نُظرائه (أي عن إخوته الذين شابههم في كل شيءٍ) بتقديمه العوض… فأوفى دين الموت. وإذ اتحد ابن الله – عديم الفساد – بالكل، بطبيعة مماثلة؛ فبطبيعة الحال ألبس الجميع عدم الفساد.كما أنه إذا ما دخل ملك عظيم مدينة عظيمة، واتخذ مسكنه في أحد بيوتها، فإن مثل هذه المدينة تعتبر على أيَّة الحالات جديرة بشرفٍ عالٍ، ولا ينزل إليها بعد ذلك ويخضعها أي عدو أو قاطع طريق؛ وإنَّما تُعتبر على العكس مستأهلة لكل عناية، لأجل أن الملك اتخذ مقره في بيتٍ واحدٍ من بيوتها؛ هكذا أيضًا ما حدث مع ملك الكل. فإنه لما جاء إلى عالمنا، واتخذ مسكنه في بيتٍ واحدٍ بين نُظرائه، أُبطلت من ذلك الحين كل مؤامرة العدو ضد الجنس البشري، وارتفع عنهم فساد الموت الذي كان متفشيًا فيهم من قبل[5].

ولم يكن الخلاص ممكنًا بغيره :

كان ضروريًا ألا يتجسَّد أحد آخر سوى الله الكلمة نفسهلأنه لاق بذاك الذي من أجله الكل، وبه الكل، وهو آت بأبناء كثيرين إلى المجد أن يجعل رئيس خلاصهم كاملاً بالآلام” (عب 2: 10). ويُقصد بهذه الكلمات أنه لم يكن اختصاص أحد آخر أن يرد البشر عن الذي بدأ، سوى “كلمة” الله، الذي هو أيضًا صنعهم من البدء… “فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا فيها، لكي يبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس، ويعتق أولئك الذين خوفًا من الموت كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية” (عب 2: 14-15).

لأنه بذبيحة جسده وضع نهاية للحكم الذي كان ضدنا، وكما وضع لنا بداية للحياة برجاء القيامة الذي أعطاه لنا، لأنه كما بإنسان ساد الموت على البشر، كذلك أيضًا بكلمة الله – إذ صار إنسانًا – تهدم الموت، وبدأت قيامة الحياة[6].

القدِّيس أثناسيوس الرسولي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] تجسد الكلمة، فصل 3: 3-5.

[2] تجسد الكلمة، فصل 4: 4-6: 1.

[3] تجسد الكلمة، فصل 6: 3-7: 1.

[4] تجسد الكلمة، فصل 7: 2-4.

[5] تجسد الكلمة، فصل 7: 5-9: 4.

[6] تجسد الكلمة، فصل 10: 3-5.

عن كتاب الحب الالهي للقمص تادرس يعقوب مالطي . ص 385 : 388